بين الشاشات و الواقع.. دور الألعاب الالكترونية في تشكيل الوعي الثقافي والسياسي

تقرير:رودينا محمد

:نائب رئيس الاتحاد المصرى للألعاب الالكترونية

تتحول  إلى وسيلة تعليمية وتثقيفية فعّالة عندما تستند إلى مفاهيم أو قصص مرتبطة بالتراث الثقافي.

تشهد الرياضات الإلكترونية نموا غير مسبوق في العالم الرقمي المعاصر، حيث لم تعد تقتصر على كونها وسيلة للترفيه أو التسلية، بل تحولت إلى منصة حيوية للتعبير الثقافي والتواصل بين الشعوب. كما تلعب  دورا متزايد الأهمية في حفظ التراث الثقافي ونقله إلى الأجيال الجديدة من خلال دمج الرموز والعناصر التاريخية والأسطورية والموسيقية واللغوية ضمن محتواها البصري والسردي، ما يتيح للشباب التعرف على ثقافتهم بأسلوب تفاعلي ممتع وجذاب.

 من ناحية أخرى، تمتلك الألعاب الإلكترونية القدرة على التأثير في أنماط التفكير والتصورات الاجتماعية، حيث يمكن أن تنقل رسائل سياسية أو اجتماعية بطرق مباشرة أو ضمنية من خلال القصة أو شخصيات اللعبة أو العالم الافتراضي الذي تخلقه. وتساهم هذه الألعاب في تعزيز الحوار الثقافي والتفاهم بين الشعوب، إذ تفتح فضاءات مشتركة للتفاعل والتنافس بين لاعبين من خلفيات ثقافية مختلفة، مما يعزز قيم التعايش والانفتاح.

في ظل هذه التحولات، تصبح الرياضات الإلكترونية أكثر من مجرد منافسات افتراضية، بل أداة ثقافية فعالة يمكن توظيفها للحفاظ على الهوية الثقافية والترويج لها عالميا، والتأثير في وعي الأفراد والجماعات بأساليب تتجاوز الوسائل التقليدية.

 

الألعاب كوسيلة للتعبير الثقافي

تقوم شركات الألعاب بابتكار كون رقمي يستخدم فيها اللاعبون صورا رمزية للتفاعل فيما بينهم، ضمن عالم افتراضي. ولعل توفر تقنية الميتافيرس التي تعتمد على العوالم الافتراضية والواقع المعزز، جعلها ساحة تقنية قادرة على تشكيل محاكاة افتراضية للواقع، يمكن من خلالها الولوج إلى عالم الأعمال والصناعة، والألعاب وغيرها. ولعل السؤال الذي يمكن أن نطرحه هنا يرتبط بتلك العلاقة بين هذا التطور التقني الهائل في عالم الألعاب الافتراضي، وثقافة المجتمعات، فالمتتبع لهذه الألعاب سيجد أنها تقوم على فكرة ثقافية ما، سواء أكانت مرتبطة بثقافة المجتمعات أو ثقافة منظمات معينة وتوجهاتها ، أو حتى تيارات فكرية.

فقد أتاحت هذه التقنيات إمكانية تصميم ألعاب تستلهم من التاريخ، والأساطير، والفنون، والعادات الشعبية، مما يجعل اللاعبين يتفاعلون مع عناصر التراث بأسلوب ممتع وتفاعلي. من خلال المحاكاة ثلاثية الأبعاد والواقع المعزز والافتراضي، أصبح بالإمكان إعادة بناء المدن القديمة، وتجسيد الشخصيات التاريخية، واستعراض الأزياء وتوظيف الألحان الشعبية والآلات التقليدية في الموسيقى التصويرية للألعاب، مما يعزز الوعي بالهوية الثقافية، خاصة لدى الأجيال الجديدة. وبالمثل، تُعد اللغة أداة قوية للحفاظ على الهوية؛ إذ إن استخدام اللهجات المحلية أو العبارات التراثية داخل الحوارات النصية أو الصوتية في اللعبة يُسهم في تعزيز حضور اللغة كجزء من الموروث الثقافي.

أوضح محمد خليف، نائب رئيس الاتحاد المصري للألعاب الالكترونية ومستشار الابتكار والتحول الرقمي في حديثه لموقع Esportegy، التطور الذي طرأ على الألعاب الالكترونية، حيث لم تعد وسيلة للترفيه فقط، بل أصبحت تحمل محتوى ذا قيمة معرفية أو ثقافية، قائلا: "لم تعد الألعاب الإلكترونية كما كانت في السابق، بل أصبحت تعتمد على قصص أو مفاهيم محددة. وإذا استندت هذه المفاهيم إلى التراث الثقافي، فإن اللعبة تتحول إلى وسيلة تعليمية وتثقيفية تستهدف الشباب من مختلف الأعمار."

ومن أبرز الأمثلة لعبة  Never Alone، حيث طورت بالتعاون مع شعب "الإينوبياك" من سكان ألاسكا الأصليين، وتعرض قصصا وأساطير تراثية من ثقافتهم. تتيح اللعبة للاعبين التعرف على نمط حياة السكان الأصليين وقيمهم من خلال سرد تفاعلي ومؤثر، مما يجعلها نموذجا مثاليا للحفاظ على التراث الشفهي باستخدام الوسائط الرقمية. وقد أثارت اللعبة ردود أفعال على مستوى العالم. فقد نزلت اللعبة أكثر من 4 ملايين مرة، وكتب عنها حوالي أكثر من 1000 مقال في الجارديان، والبي بي سي وغيرها. وانضمت اللعبة إلى أكثر من 75 قائمة أفضل لعبة في السنة

ولعبة Assassin’s Creed ، حيث تستعرض السلسلة العديد من الحضارات مثل الحضارة الفرعونية، والرومانية، والعثمانية، من خلال عوالم دقيقة تاريخيًا وشخصيات واقعية. وبهذا، لم تعد الألعاب مجرد وسيلة ترفيهية، بل تحولت إلى منصة تعليمية تسهم في صون التراث ونقله عبر الوسائط الرقمية الحديثة.

 

رسائل مشفرة في عباءة الترفيه

تعتبر لعبة الفيديو وسيلة إعلامية تتضمن رسائل مشفرة ومرمزة يهدف المرسل من خلالها إلى تحقيق أهداف وغايات ثقافية وسياسية ودينية، مستفيدة من قدرتها الكبيرة على التأثير في سلوك اللاعبين وتفكيرهم من خلال التفاعل والمشاركة، فقواعد اللعبة تفرض على اللاعب تقمص الشخصية المفروضة عليه وانغماس في واقع معين من الحرب الفكرية أو العسكرية أو الثقافية أو الإيدلوجية. ويمنح الطابع التفاعلي للألعاب هذه الرسائل تأثيرًا أعمق من الوسائل التقليدية، إذ يعيش اللاعب التجربة ويتفاعل معها بشكل مباشر، مما يجعل الألعاب الرقمية منصة قوية للتأثير الثقافي والإيديولوجي في المجتمعات، خاصة بين فئة الشباب. وهنا تكمن الخطورة في إمكانية تقريب اللاعب من الخيال والواقع إلى درجة محاولة تطبيق مضامين هذه الألعاب في حياته اليومية، مما يعني تنميط السلوك على النحو الذي يرغب فيه صانعو هذه الألعاب.

وفقا لدراسة نشرها مركز «بروكينغز» للدراسات في مارس 2021، تحت عنوان «ألعاب الفيديو ساحة جديدة لنزاعات السياسة العامة» للباحث جوشوا فاوست، فقد استثمر البنتاغون على مدى 20 عاما في استخدام ألعاب الفيديو كوسيلة لحث الشباب الأميركي على التجنيد، وأطلق ألعابا شهيرة تعكس قيمة الجندي الأميركي، ومنها لعبة America’s Army وهي لعبة عسكرية مجانية تم إطلاقها في عام 2002 لإقناع اللاعبين الشباب بالتجنيد. وخلصت الدراسة إلى التأكيد على أن «الألعاب الإلكترونية ليست فقط مساحة ثقافية متنازعا عليها في أميركا، ولكنها أيضاً مساحة سياسية متنازعاً عليها تتنافس فيها الحكومات والشركات والصحافيون والنشطاء واللاعبون من كل فئة، لسرد القصص وتشكيل التصورات حول العالم».

  

الألعاب كأداة للتواصل الثقافي

تمثل الرياضات الإلكترونية نقطة التقاء بين ثقافات متعددة، حيث يجتمع اللاعبون من مختلف الجنسيات والخلفيات في بيئة تنافسية مشتركة. هذا التفاعل اليومي يخلق مساحات للحوار، تبادل القيم، والتعرف على أنماط حياة الآخرين.

بطولات الألعاب الكبرى، مثل  League of Legends World Champion ، تضم فرقا من القارات كافة، وتشهد تفاعلات ثقافية عميقة بين المشاركين، سواء داخل اللعبة أو خارجها عبر منصات التواصل مثل  Twitch و Discord. هذه المجتمعات الرقمية تمثل شبكات اجتماعية عابرة للحدود، حيث يتشارك اللاعبون الأفكار واللغات والنكات والعادات، في إطار غير رسمي لكنه ذو أثر حقيقي. وبهذا، تسهم الرياضات الإلكترونية في بناء جسور تواصل ثقافي تتجاوز ما يمكن أن تحققه الوسائل التقليدية أو حتى الأنشطة الرياضية المألوفة.

 

تحديات نقل التراث الثقافي عبر الألعاب

رغم الإمكانيات الكبيرة التي توفرها الألعاب الإلكترونية كوسيلة لنقل التراث الثقافي والتواصل بين الشعوب، إلا أن هذا المسار يواجه عددا من التحديات التي يجب أخذها بعين الاعتبار. من أبرز هذه التحديات خطر التبسيط أو التشويه الثقافي، حيث قد يتم اختزال الرموز أو العادات التقليدية لتلائم السياق الترفيهي، مما يؤدي إلى تقديم صورة غير دقيقة أو نمطية عن الثقافة الأصلية. كما يطرح إشكال الاستيلاء الثقافي عندما تستخدم عناصر ثقافية من مجتمعات معينة دون إذن أو احترام للسياق التاريخي، مما يثير مخاوف أخلاقية حول استغلال التراث لأغراض تجارية.

كما يواجه المطورون صعوبة في تحقيق توازن بين الجانب التعليمي والتجربة الترفيهية، حيث قد يؤثر التركيز على المعلومات الثقافية على ديناميكية اللعب، مما قد ينفر بعض المستخدمين.

من جهة أخرى، تعد القيود التقنية والمالية عقبة كبيرة، خاصة في الدول التي تفتقر إلى بنية تحتية قوية لصناعة الألعاب. كما أن الاختلافات الثقافية في التلقي قد تؤدي إلى سوء فهم أو تأويل غير دقيق لبعض الرموز، ما يحدّ من فعالية الرسالة الثقافية الموجهة.

تمثل الرقابة السياسية تحديا إضافيا، خاصة عندما تتناول الألعاب مواضيع تاريخية أو سياسية حساسة لا تتماشى مع الرواية الرسمية لبعض الأنظمة. وأخيرا، فإن قلة الدعم المؤسسي والتمويل الحكومي يشكل عائقا أمام تطوير ألعاب إلكترونية تعكس الثقافة المحلية وتساهم في حفظها وترويجها عالميا.

إن الحفاظ على التراث الثقافي ليس مجرد صونٍ لماضٍ مضى، بل هو استثمار في المستقبل، إذ يساهم في تعزيز الانتماء والوعي بالذات لدى الأجيال القادمة. ومن خلال نقله بشكل حي وفعال، نضمن استمرارية الثقافات وتنوعها في وجه العولمة والتحديات المعاصرة، ونمنح الأجيال القادمة جذوراً راسخة يستمدون منها القوة والهوية. لذا يجب دعم إنتاج الألعاب الإلكترونية التي تبرز التراث الثقافي وتدمج الرموز التاريخية بطرق مبتكرة، وتعزيز الشراكات بين المطورين والجهات الثقافية لضمان محتوى أصيل، والاستثمار في التوعية بأثر هذه الألعاب على التفكير والتصورات الاجتماعية، لضمان توظيفها بشكل إيجابي وبناء.

 

 

 

Previous
Previous

الجيل الجديد يدخل اللعبة ! كيف يؤثر “الواقع الافتراضي” في تشكيل ملامح صناعة الألعاب؟

Next
Next

من الهواية إلى الاحتراف .. صناعة ألعاب الفيديو تفتح أبواباً وظيفية جديدة حول العالم