التفكير عبر 64 مربعًا: كيف يُعيد الشطرنج تشكيل العقل؟
تقرير:حبيبة وائل، حبيبة عثمان،محمد علاء
في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة وتزداد فيه الضغوط الذهنية والمنافسة في مختلف المجالات، تبرز أهمية الألعاب الذهنية كأداة فعالة لتقوية القدرات العقلية وتحفيز التفكير التحليلي والإبداعي. وبين هذه الألعاب، يحتل الشطرنج مكانة متقدمة، ليس فقط لكونه رياضة ذهنية عريقة تمارس في كل أنحاء العالم، بل لأنه يقدم نموذجًا فريدًا في تدريب العقل على التركيز والتخطيط واتخاذ القرار، فالشطرنج لم يعد مجرد لعبة يهوى ممارستها النخبة أو "الأذكياء" كما يُشاع، بل أصبح وسيلة تعليمية وتطويرية معترف بها في المؤسسات التعليمية والبيئات المهنية على حد سواء.
الشطرنج وتطوير التفكير والتركيز
قال أحمد عدلي، رئيس الاتحاد المصري للشطرنج الأسسبق وصاحب أكاديمية عدلي للشطرنج، إن لاعبي الشطرنج المحترفين يخضعون لتدريبات عقلية منظمة تهدف إلى تنمية مهارات التخيل والتركيز الذهني، وأن ممارسة اللعبة بانتظام تعزز من قدرات الفرد في الحساب الذهني، وتقييم المواقف، واتخاذ القرارات، ويضيف: " كل هذه المهارات تنعكس بشكل مباشر على سلوك الإنسان في حياته اليومية، فتجعله أكثر توازنًا وقدرة على التفكير المنطقي تحت الضغط ".
وينفي عدلي أن يكون الشطرنج مقتصرًا على من يمتلكون ما يسمى بـ"الذكاء الفطري"، موضحًا أن الذكاء ليس مطلقًا بل هو قابل للنمو بالتدريب والممارسة.
من الجوانب التي يبرز فيها تأثير الشطرنج، الجانب التعليمي، إذ تشير الدراسات إلى أن الأطفال الذين يمارسون اللعبة بانتظام يحققون تحسنًا ملحوظًا في مستواهم الدراسي، بفضل تطور مهاراتهم في الفهم والتحليل والاستيعاب، أما على الصعيد الصحي، فيلفت عدلي إلى أن أبحاثًا عدة تؤكد أن الشطرنج يساهم في تقليل احتمالية الإصابة بأمراض مثل الزهايمر، إذ يعمل على تحفيز الذاكرة والوظائف العقلية بشكل منتظم، خصوصًا في مستوياته المتقدمة التي قد تتطلب من اللاعب اللعب دون رقعة، بالاعتماد الكامل على التصور الذهني.
أكثر من منطق .. فن وإبداع
رغم شيوع الاعتقاد بأن الشطرنج لعبة تعتمد على المنطق فقط، يرى عدلي أن هذه النظرة سطحية ، فهو يصف الشطرنج بأنه علم له مناهجه، ورياضة تُمرّن العقل، وفن يحتاج إلى خيال وقدرة على ابتكار الحلول غير التقليدية، قائلًا: " اللاعب المحترف يدرس يوميًا من 5 إلأى 8 ساعات، تمامًا كما يفعل الموسسيقي أو الفنان التشكيلي، هناك قواعد عليك أن تتقنها، ثم بعد ذلك تعزف بها بطريقتك الخاصة".
ويضيف أن الشطرنج يتقاطع ذهنيًا مع علوم أخرى كالإدارة، حيث تعتمد اللعبة على نفس مفاهيم التخطيط طويل المدى، قراءة تحركات الخصم، واتخاذ القرارات تحت ضغط، وهي مهارات يحتاجها كل قائد ناجح.
يوضح عدلي أن طريقة تفكير لاعب الشطرنج تختلف جذريًا عن الشخص العادي، فالمحترف لا يتعامل مع التحديات بعشوائية، بل يبدأ بتقييم الموقف، ثم يحسب المخاطر، يتوقع ردود الفعل، ويضع خطة مستقبلية، ويشير إلى كتاب "Your Next Five Moves" في مجال الأعمال كمثال على كيف ألهمت استراتيجيات الشطرنج أساليب التفكير في القيادة واتخاذ القرار.
في الإدارة والعمل .. الشطرنج أداة للقادة
يرى عدلي أن الشطرنج يمثل نموذجًا مثاليًا لتدريب المديرين والقادة، لما يقدمه من تمارين عقلية على اتخاذ القرار السليم تحت الضغط، وتوقع ردود أفعال المنافسين، والتفكير القصير والطويل المدى في آنٍ واحد، ويضيف: "اللعبة تعلمك أن تكون مرنًا، تحلل بهدوء، وتعرف متى تتحرك ومتى تنتظر، ولهذا بدأت بعض الشركات الكبرى في العالم تعتمد الشطرنج كأداة تدريبية لتأهيل قادتها".
كيف ينمي الشطرنج التفكير الإبداعي والتحليلي؟
ويختتم أحمد عدلي حديثه بالتأكيد على أن الشطرنج ليس مجرد لعبة مسلية، بل هو منظومة عقلية متكاملة تُعيد تشكيل طريقة التفكير بطريقة عميقة وفعّالة، ولمن يرغب في تطوير تفكيره الإبداعي والتحليلي، ينصحه أولًا بتعلّم أساسيات اللعبة كقوانين الحركة والمفاهيم العامة مثل السيطرة على المركز وحماية الملك، ثم الانتقال إلى ممارسة الشطرنج بانتظام ولو لربع ساعة يوميًا، كما يشدد على أهمية حل المسائل الشطرنجية كوسيلة فعالة لتحسين مهارات اتخاذ القرار، ومتابعة مباريات اللاعبين الكبار وتحليل قراراتهم، بالإضافة إلى كتابة القرارات أثناء اللعب ومراجعتها بعد كل مباراة لاكتشاف أنماط التفكير وتطويرها، ويدعو أيضًا إلى تمرين الخيال من خلال حل المسائل ذهنيًا دون رقعة، والربط بين مواقف الشطرنج والمواقف الحياتية، مشيرًا إلى أن كل موقف شطرنجي له نظير في الواقع، سواء في العمل أو العلاقات.